TRANSLATE

English French German Spain Italian Dutch
Russian Portuguese Japanese Korean Arabic Chinese Simplified

Saturday, October 23, 2010

حول الاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف
العلامة السيد/ محمد علوي المالكي الحسني

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد ، فقد كثر الكلام عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وما كنت أود أن أكتب شيئاً في هذا الموضوع وذلك لأن ما شغل ذهني وذهن العقلاء من المسلمين اليوم هو أكبر من هذه القضية الجانبية التي صار الكلام عنها أشبه ما يكون بالحولية التي تُقرأ في كل موسم وتُنشر في كل عام حتى ملّ الناس سماع مثل هذا الكلام ، لكن لما أحب كثير من الإخوان أن يعرفوا رأيي بالخصوص في هذا المجال ، وخوفاً من أن يكون ذلك من كتم العلم أقدمت على المشاركة في الكتابة عن هذا الموضوع سائلين من المولى عزوجل أن يلهم الجميع الصواب آمين .

وقبل أن أسرد الأدلة على جواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والاجتماع عليه أحب أن أبين المسائل الآتية :

الأولى : أننا نقول بجواز الاحتفال بالمولد النبوي الشريف والاجتماع لسماع سيرته والصلاة والسلام عليه وسماع المدائح التي تُقال في حقه ، وإطعام الطعام وإدخال السرور على قلوب الأمة .

الثانية : أننا لا نقول بسنية الاحتفال بالمولد المذكور في ليلة مخصوصة بل من اعتقد ذلك فقد ابتدع في الدين ، لأن ذكره صلّىالله عليه وسلّم والتعلق به يجب أن يكون في كل حين ، ويجب أن تمتلئ به النفوس .

نعم : إن في شهر ولادته يكون الداعي أقوي لإقبال الناس واجتماعهم وشعورهم الفياض بارتباط الزمان بعضه ببعض ، فيتذكرون بالحاضر الماضي وينتقلون من الشاهد إلى الغائب .

الثالثة : أن هذه الاجتماعات هي وسيلة كبرى للدعوة إلى الله ، وهي فرصة ذهبية لا تفوت ، بل يجب على الدعاة والعلماء أن يذّكروا الأمة بالنبي صلّىالله عليه وسلّم بأخلاقه وآدابه وأحواله وسيرته ومعاملته وعبادته ، وأن ينصحوهم ويرشدوهم إلى الخير والفلاح ويحذّروهم من البلاء والبدع والشر والفتن ، وإننا دائما ندعو إلى ذلك ونشارك في ذلك ونقول للناس : ليس المقصود من هذه الاجتماعات مجرد الاجتماعات والمظاهر ، بل هذه وسيلة شريفة إلى غاية شريفة وهي كذا وكذا ، ومن لم يستفد شيئا لدينه فهو محروم من خيرات المولد الشريف .

أدلة جواز الاحتفال بمولد النبي صلّىالله عليه وسلّم

الأول : أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف تعبير عن الفرح والسرور بالمصطفى صلّىالله عليه وسلّم ، وقد انتفع به الكافر .

وسيأتي في الدليل التاسع مزيد بيان لهذه المسألة ، لأن أصل البرهان واحد وإن اختلفت كيفية الاستدلال وقد جرينا على هذا المنهج في هذا البحث وعليه فلا تكرار

فقد جاء في البخاري أنه يخفف عن أبي لهب كل يوم الاثنين بسبب عتقه لثويبة جاريته لما بشّرته بولادة المصطفى صلّىالله عليه وسلّم .

ويقول في ذلك الحافظ شمس الدين محمد بن ناصر الدين الدمشقي

إذا كان هذا كافـراً جاء ذمـه….. بتبّت يداه في الجحيم مخلّدا

أتى أنه في يوم الاثنين دائـمـا….. يُخفّف عنه للسرور بأحمدا

فما الظن بالعبد الذي كان عمره ……بأحمد مسرورا ومات موحّدا

وهذه القصة رواها البخاري في الصحيح في كتاب النكاح مرسلة ونقلها الحافظ ابن حجر في الفتح ورواها الإمام عبدالرزاق الصنعاني في المصنف والحافظ البيهقي في الدلائل وابن كثير في السيرة النبوية من البداية ومحمد ابن عمر بحرق في حدائق الأنوار والحافظ البغوي في شرح السنة وابن هشام والسهيلي في الروض الأُنُف والعامري في بهجة المحافل ، وهي وإنْ كانت مرسلة إلا أنها مقبولة لأجل نقل البخاري لها واعتماد العلماء من الحفاظ لذلك ولكونها في المناقب والخصائص لا في الحلال والحرام ، وطلاب العلم يعرفون الفرق في الاستدلال بالحديث بين المناقب والأحكام ، وأما انتفاع الكفار بأعمالهم ففيه كلام بين العلماء ليس هذا محل بسطه ، والأصل فيه ما جاء في الصحيح من التخفيف عن أبي طالب بطلب من الرسول صلّىالله عليه وسلّم .

الثاني : أنه صلّىالله عليه وسلّم كان يعظّم يوم مولده ، ويشكر الله تعالى فيه على نعمته الكبرى عليه ، وتفضّله عليه بالجود لهذا الوجود ، إذ سعد به كل موجود ، وكان يعبّر عن ذلك التعظيم بالصيام كما جاء في الحديث عن أبي قتادة : أن رسول الله صلّىالله عليه وسلّم سُئل عن صيام يوم الاثنين ؟ فقال (فيه وُلدتُ وفيه أُنزل عليَّ ) رواه الإمام مسلم في الصحيح في كتاب الصيام .

وهذا في معنى الاحتفال به ، إلاّ أن الصورة مختلفة ولكن المعنى موجود سواء كان ذلك بصيام أو إطعام طعام أو اجتماع على ذكر أو صلاة على النبي صلّىالله عليه وسلّم أو سماع شمائله الشريفة .

الثالث : أن الفرح به صلّىالله عليه وسلّم مطلوب بأمر القرآن من قوله تعالى ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ) فالله تعالى أمرنا أن نفرح بالرحمة ، والنبي صلّىالله عليه وسلّم أعظم الرحمة ، قال الله تعالى ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .

الرابع : أن النبي صلّىالله عليه وسلّم كان يلاحظ ارتباط الزمان بالحوادث الدينية العظمى التي مضت وانقضت ، فإذا جاء الزمان الذي وقعت فيه كان فرصة لتذكّرها وتعظيم يومها لأجلها ولأنه ظرف لها .

وقد أصّل صلّىالله عليه وسلّم هذه القاعدة بنفسه كما صرح في الحديث الصحيح أنه صلّىالله عليه وسلّم : لما وصل المدينة ورأى اليهود يصومون يوم عاشوراء سأل عن ذلك فقيل له : إنهم يصومون لأن الله نجّى نبيهم وأغرق عدوهم فهم يصومونه شكرا لله على هذه النعمة ، فقال صلّىالله عليه وسلّم : نحن أولى بموسى منكم ، فصامه وأمر بصيامه .

الخامس : أن المولد الشريف يبعث على الصلاة والسلام المطلوبين بقوله تعالى : ( إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما ) .

وما كان يبعث على المطلوب شرعاً فهو مطلوب شرعاً ، فكم للصلاة عليه من فوائد نبوية ، وإمدادات محمدية ، يسجد القلم في محراب البيان عاجزاً عن تعداد آثارها ومظاهر أنوارها .

السادس : أن المولد الشريف يشتمل على ذكر مولده الشريف ومعجزاته وسيرته والتعريف به ، أولسنا مأمورين بمعرفته ومطالبين بالاقتداء به والتأسّي بأعماله والإيمان بمعجزاته والتصديق بآياته ؟ وكتب المولد تؤدي هذا المعنى تماما .

السابع : التعرّض لمكافأته بأداء بعض ما يجب له علينا ببيان أوصافه الكاملة وأخلاقه الفاضلة ، وقد كان الشعراء يفدون إليه صلّىالله عليه وسلّم بالقصائد ويرضى عملهم ، ويجزيهم على ذلك بالطيبات والصلات ، فإذا كان يرضى عمن مدحه فكيف لا يرضى عمن جمع شمائله الشريفة ، ففي ذلك التقرب له عليه السلام باستجلاب محبته ورضاه .

الثامن : أن معرفة شمائله ومعجزاته وإرهاصاته تستدعي كمال الإيمان به عليه الصلاة والسلام ، وزيادة المحبة ، إذ الإنسان مطبوع على حب الجميل ، ولا أجمل ولا أكمل ولا أفضل من أخلاقه وشمائله صلّىالله عليه وسلّم ، وزيادة المحبة وكمال الإيمان مطلوبان شرعاً ، فما كان يستدعيهما فهو مطلوب كذلك .

التاسع : أن تعظيمه صلّىالله عليه وسلّم مشروع ، والفرح بيوم ميلاده الشريف بإظهار السرور وصنع الولائم والاجتماع للذكر وإكرام الفقراء من أظهر مظاهر التعظيم والابتهاج والفرح والشكر لله بما هدانا لدينه القويم وما منّ به علينا من بعثه عليه أفضل الصلاة والتسليم .

العاشر : يؤخذ من قوله صلّىالله عليه وسلّم في فضل يوم الجمعة وعدِّ مزاياه : ( وفيه خُلق آدم ) تشريف الزمان الذي ثبت أنه ميلاد لأي نبيٍّ كان من الأنبياء عليهم السلام ، فكيف باليوم الذي وُلد فيه أفضل النبيين وأشرف المرسلين .

ولا يختص هذا التعظيم بذلك اليوم بعينه بل يكون له خصوصاً ، ولنوعه عموماً مهما تكرر كما هو الحال في يوم الجمعة شُكراً للنعمة وإظهاراً لمزية النبوة وإحياءً للحوادث التاريخية الخطيرة ذات الإصلاح المهم في تاريخ الإنسانية وجبهة الدهر وصحيفة الخلود ، كما يؤخذ تعظيم المكان الذي وُلد فيه نبيٌّ من أمر جبريل عليه السلام النبيَّ صلّىالله عليه وسلّم بصلاة ركعتين ببيت لحم ، ثم قال له : ( أتدري أين صلّيت ؟ قال : لا ، قال : صلّيتَ ببيت لحم حيث وُلد عيسى ) كما جاء ذلك في حديث شداد بن أوس الذي رواه البزّار وأبو يعلى والطبراني . قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد : ورجاله رجال الصحيح ، وقد نقل هذه الرواية الحافظ ابن حجر في الفتح وسكت عنها .

الحادي عشر : أن المولد أمرٌ استحسنه العلماء والمسلمون في جميع البلاد ، وجرى به العمل في كل صقع فهو مطلوب شرعاً للقاعدة المأخوذة من حديث ابن مسعود رضي الله عنه الموقوف ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح ) أخرجه أحمد .

الثاني عشر : أن المولد اشتمل على اجتماع وذكر وصدقة ومدح وتعظيم للجناب النبوي فهوسنة ، وهذه أمور مطلوبة شرعاً وممدوحة وجاءت الآثار الصحيحة بها وبالحثّ عليها .

الثالث عشر : أن الله تعالى قال : ( وكلاًّ نقصُّ عليك من أنباء الرسل ما نثبّت به فؤادك ) فهذا يظهر منه أن الحكمة في قصّ أنباء الرسل عليهم السلام تثبيت فؤاده الشريف بذلك ولا شك أننا اليوم نحتاج إلى تثبيت أفئدتنا بأنبائه وأخباره أشد من احتياجه هو صلّىالله عليه وسلّم .

الرابع عشر : ليس كل ما لم يفعله السلف ولم يكن في الصدر الأول فهو بدعة منكرة سيئة يحرم فعلها ويجب الإنكار عليها بل يجب أن يعرض ما أحدث على أدلة الشرع فما اشتمل على مصلحة فهو واجب ، أو على محرّم فهو محرّم ، أو على مكروه فهو مكروه ، أو على مباح فهو مباح ، أو على مندوب فهو مندوب ، وللوسائل حكم المقاصد ، ثم قسّم العلماء البدعة إلى خمسة أقسام :

واجبة : كالرد على أهل الزيغ وتعلّم النحو .

ومندوبة : كإحداث الربط والمدارس ، والأذان على المنائر وصنع إحسان لم يعهد في الصدر الأول .

ومكروه : كزخرفة المساجد وتزويق المصاحف .

ومباحة : كاستعمال المنخل ، والتوسع في المأكل والمشرب .

ومحرمة : وهي ما أحدث لمخالفة السنة ولم تشمله أدلة الشرع العامة ولم يحتو على مصلحة شرعية .

الخامس عشر : فليست كل بدعة محرّمة ، ولو كان كذلك لحرُم جمع أبي بكر وعمر وزيد رضي الله عنهم القرآن وكتبه في المصاحف خوفاً على ضياعه بموت الصحابة القراء رضي الله عنهم ، ولحرم جمع عمر رضي الله عنه الناس على إمام واحد في صلاة القيام مع قوله ( نعمت البدعة هذه ) وحرم التصنيف في جميع العلوم النافعة ولوجب علينا حرب الكفار بالسهام والأقواس مع حربهم لنا بالرصاص والمدافع والدبابات والطيارات والغواصات والأساطيل ، وحرم الأذان على المنائر واتخاذ الربط والمدارس والمستشفيات والإسعاف ودار اليتامى والسجون ، فمن ثَم قيّد العلماء رضي الله عنهم حديث (كل بدعة ضلالة ) بالبدعة السيئة ، ويصرّح بهذا القيد ما وقع من أكابر الصحابة والتابعين من المحدثات التي لم تكن في زمنه صلّىالله عليه وسلّم ، ونحن اليوم قد أحدثنا مسائل كثيرة لم يفعلها السلف وذلك كجمع الناس على إمام واحد في آخر الليل لأداء صلاة التهجد بعد صلاة التراويح ، وكختم المصحف فيها وكقراءة دعاء ختم القرآن وكخطبة الإمام ليلة سبع وعشرين في صلاةالتهجد وكنداء المنادي بقوله ( صلاة القيام أثابكم الله ) فكل هذا لم يفعله النبي صلّىالله عليه وسلّم ولا أحد من السلف فهل يكون فعلنا له بدعة ؟

السادس عشر : فالاحتفال بالمولد وإن لم يكن في عهده صلّىالله عليه وسلّم فهو بدعة ، ولكنها حسنة لاندراجها تحت الأدلة الشرعية ، والقواعد الكلية ، فهي بدعة باعتبار هيئتها الاجتماعية لا باعتبار أفرادها لوجود أفرادها في العهد النبوي عُلم ذلك في الدليل الثاني عشر .

السابع عشر : وكل ما لم يكن في الصدر الأول بهيئته الاجتماعية لكن أفراده موجودة يكون مطلوباً شرعاً ، لأن ما تركّب من المشروع فهو مشروع كما لا يخفى .

الثامن عشر : قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة ، وما أحدث من الخير ولم يخالف شيئاً من ذلك فهو المحمود .ا.هـ .

وجرى الإمام العز بن عبد السلام والنووي كذلك وابن الأثير على تقسيم البدعة إلى ما أشرنا إليه سابقاً .

التاسع عشر : فكل خير تشمله الأدلة الشرعية ولم يقصد بإحداثه مخالفة الشريعة ولم يشتمل على منكر فهو من الدين .

وقول المتعصب إن هذا لم يفعله السلف ليس هو دليلاً له بل هو عدم دليل كما لا يخفى على مَن مارس علم الأصول ، فقد سمى الشارع بدعة الهدى سنة ووعد فاعلها أجراً فقال عليه الصلاة والسلام : ( مَنْ سنّ في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كُتب له مثل أجر مَن عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ) .

العشرون : أن الاحتفال بالمولد النبوي إحياء لذكرى المصطفى صلّىالله عليه وسلّم وذلك مشروع عندنا في الإسلام ، فأنت ترى أن أكثر أعمال الحج إنما هي إحياء لذكريات مشهودة ومواقف محمودة فالسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار والذبح بمنى كلها حوادث ماضية سابقة ، يحيي المسلمون ذكراها بتجديد صُوَرِها في الواقع والدليل على ذلك قوله تعالى : ( وأذِّن في الناس بالحج ) وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ( وأرنا مناسكنا ) .

الحادي والعشرون : كل ما ذكرناه سابقا من الوجوه في مشروعية المولد إنما هو في المولد الذي خلا من المنكرات المذمومة التي يجب الإنكار عليها ، أما إذا اشتمل المولد على شئ مما يجب الإنكار عليه كاختلاط الرجال بالنساء وارتكاب المحرمات وكثرة الإسراف مما لا يرضى به صاحب المولد صلّىالله عليه وسلّم فهذا لاشك في تحريمه ومنعه لما اشتمل عليه من المحرمات لكن تحريمه حينئذ يكون عارضيا لا ذاتيا كما لايخفى على مَن تأمّل ذلك

رأي الشيخ ابن تيمية في المولد

يقول : قد يُثاب بعض الناس على فعل المولد ، وكذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام وإما محبة للنبي صلّىالله عليه وسلّم وتعظيما له ، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع .

ثم قال : واعلم أن من الأعمال ما يكون فيه خير لاشتماله على أنواع من المشروع ، وفيه أيضاً شر من بدعة وغيرها فيكون ذلك العمل شراً بالنسبة إلى الإعراض عن الدين بالكلية كحال المنافقين والفاسقين .

وهذا قد ابتلي به أكثر الأمة في الأزمان المتأخرة ، فعليك هنا بأدبين :

أحدهما : أن يكون حرصك على التمسك بالسنة باطناً وظاهراً في خاصتك وخاصة من يطيعك واعرف المعروف وأنكر المنكر .

الثاني : أن تدعو الناس إلى السنة بحسب الإمكان ، فإذا رأيت من يعمل هذا ولا يتركه إلا إلى شر منه فلا تَدْعُ إلى ترك المنكر بفعل ما هو أنكر منه أو بترك واجب أو مندوب تركه أضر من فعل ذلك المكروه ، ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوّض عنه من الخير المشروع بحسب المكان ، إذ النفوس لا تترك شيئاً إلا بشئ ولا ينبغي لأحد أن يترك خيراً إلا إلى مثله أو إلى خير منه .

ثم قال : فتعظيم المولد واتخاذه موسماً قد يفعله بعض الناس ويكون له فيه أجر عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلّىالله عليه وسلّم كما قدمته لك أنه يحسن من بعض الناس ما يستقبح من المؤمن المسدد ، ولهذا قيل للإمام أحمد عن بعض الأمراء إنه أنفق على مصحف ألف دينار ونحو ذلك فقال : دعه فهذا أفضل ما أنفق فيه الذهب ، أو كما قال ، مع أن مذهبه : أن زخرفة المصاحف مكروهة ، وقد تأول بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجديد الورق والخط ، وليس مقصود الإمام أحمد هذا وإنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة وفيه أيضاً مفسدة كُره لأجلها .

مفهوم المولد في نظري

إننا نرى أن الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ليست له كيفية مخصوصة لابد من الالتزام أو إلزام الناس بها ، بل إن كل ما يدعو إلى الخير ويجمع الناس على الهدى و يرشدهم إلى ما فيه منفعتهم في دينهم ودنياهم يحصل به تحقيق المقصود من المولد النبوي .

ولذلك فلو اجتمعنا على شئ من المدائح التي فيها ذكر الحبيب صلّىالله عليه وسلّم وفضله وجهاده وخصائصه ولم نقرأ القصة التي تعارف الناس على قراءتها واصطلحوا عليها حتى ظن البعض أن المولد النبوي لا يتم إلا بها ، ثم استمعنا إلى ما يلقيه المتحدثون من مواعظ وإرشادات وإلى ما يتلوه القارئ من آيات .

أقول : لو فعلنا ذلك فإن ذلك داخل تحت المولد النبوي الشريف ويتحقق به معنى الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ، وأظن أن هذا المعنى لا يختلف عليه اثنان ولا ينتطح فيه عنـزان .

القيام في المولد

أما القيام في المولد النبوي عند ذكر ولادته صلّىالله عليه وسلّم وخروجه إلى الدنيا ، فإن بعض الناس يظن ظناً باطلاً لا أصل له عند أهل العلم فيما أعلم بل عند أجهل الناس ممن يحضر المولد ويقوم مع القائمين ، وذاك الظن السيء هو أن الناس يقومون معتقدين أن النبي صلّىالله عليه وسلّم يدخل إلى المجلس في تلك اللحظة بجسده الشريف ، ويزيد سوء الظن ببعضهم فيرى أن البخور والطيب له وأن الماء الذي يوضع في وسط المجلس ليشرب منه .

وكل هذه الظنون لا تخطر ببال عاقل من المسلمين ، وإننا نبرأ إلى الله من كل ذلك لما في ذلك من الجراءة على مقام رسول الله صلّىالله عليه وسلّم والحكم على جسده الشريف بما لايعتقده إلا ملحد مفتر وأمور البرزخ لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى .

والنبي صلّىالله عليه وسلّم أعلى من ذلك وأكمل وأجل من أن يُقال في حقه إنه يخرج من قبره ويحضر بجسده في مجلس كذا في ساعة كذا .

أقول : هذا افتراء محض وفيه من الجراءة والوقاحة والقباحة ما لا يصدر إلا من مبغض حاقد أو جاهل معاند .

نعم إننا نعتقد أنه صلّىالله عليه وسلّم حيٌّ حياة برزخية كاملة لائقة بمقامه ، وبمقتضى تلك الحياة الكاملة العليا تكون روحه صلّىالله عليه وسلّم جوّالة سيّاحة في ملكوت الله سبحانه وتعالى ويمكن أن تحضر مجالس الخير ومشاهد النور والعلم ، وكذلك أرواح خُلّص المؤمنين من أتباعه ، وقد قال الإمام مالك : بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت .

وقال سلمان الفارسي : أرواح المؤمنين في برزخ من الأرض تذهب حيث شاءت . (كذا في الروح لابن القيم )

إذا علمت هذا فاعلم أن القيام في المولد النبوي ليس بواجب ولا سنة ولا يصح اعتقاد ذلك أبداً ، وإنما هي حركة يعبّر بها الناس عن فرحهم وسرورهم فإذا ذكر أنه صلّىالله عليه وسلّم ولد وخرج إلى الدنيا يتصور السامع في تلك اللحظة أن الكون كله يهتز فرحاً وسروراً بهذه النعمة فيقوم مظهراً لذلك الفرح والسرور معبّراً عنه ، فهي مسألة عادية محضة لادينية ، إنها ليست عبادة ولا شريعة ولا سنة وما هي إلا أنْ جرت عادة الناس بها

استحسان العلماء لقيام المولد وبيان وجوهه

واستحسن ذلك من استحسنه من أهل العلم ، وقد أشار إلى ذلك البرزنجي مؤلف أحد الموالد بنفسه إذ قال بالنّص : ( وقد استحسن القيام عند ذكر مولده الشريف أئمةٌ ذوو رواية ورويّه ، فطوبى لمن كان تعظيمه صلّىالله عليه وسلّم غاية مرامه ومرماه ) ، ونعني بالاستحسان للشئ هنا كونه جائزاً من حيث ذاته وأصله ومحموداً مطلوباً من حيث بواعثه وعواقبه ، لا بالمعنى المصطلح عليه في أصول الفقه ، وأقل الطلاب علماً يعرف أن كلمة (استحسن) يجري استعمالها في الأمور العادية المتعارف عليها بين الناس فيقولون : استحسنت هذا الكتاب وهذا الأمر مستحسن واستحسن الناس هذه الطريقة ، ومرادهم بذلك كله هو الاستحسان العادي اللغوي وإلا كانت أمور الناس أصولاً شرعية ولا يقول بهذا عاقل أو مَن عنده أدنى إلمام بالأصول .

وجوه استحسان القيام

الوجه الأول : أنه جرى عليه العمل في سائر الأقطار والأمصار واستحسنه العلماء شرقاً وغرباً ، والقصد به تعظيم صاحب المولد الشريف صلّىالله عليه وسلّم ، وما استحسنه المسلمون فهو عند الله حسن ، وما استقبحوه فهو عند الله قبيح كما تقدم في الحديث .

الوجه الثاني : أن القيام لأهل الفضل مشروع ثابت بالأدلة الكثيرة من السنة ، وقد ألف الإمام النووي في ذلك جزءاً مستقلاً وأيّده ابن حجر وردّ على ابن الحاج الذي ردّ عليه بجزء آخر سّماه رفع الملام عن القائل باستحسان القيام .

الوجه الثالث : ورد في الحديث المتفق عليه قوله صلّىالله عليه وسلّم للأنصار ( قوموا إلى سيدكم ) وهذا القيام كان تعظيماً لسيدنا سعد رضي الله عنه ولم يكن من أجل كونه مريضاً وإلا لقال قوموا إلى مريضكم ولم يقل إلى سيدكم ولم يأمر الجميع بالقيام بل كان قد أمر البعض .

الوجه الرابع : كان من هدي النبي صلّىالله عليه وسلّم أن يقوم تعظيماً للداخل عليه وتأليفاً كما قام لابنته السيدة فاطمة وأقرّها على تعظيمها له بذلك ، وأمر الأنصار بقيامهم لسيدهم فدلّ ذلك على مشروعية القيام ، وهو صلّىالله عليه وسلّم أحق من عظّم لذلك .

الوجه الخامس : قد يقال إن ذلك في حياته وحضوره صلّىالله عليه وسلّم ، وهو في حالة المولد غير حاضر ، فالجواب عن ذلك أن قارئ المولد الشريف مستحضر له صلّىالله عليه وسلّم بتشخيص ذاته الشريفة ، وهذا التصور شئ محمود ومطلوب بل لابد أن يتوفر في ذهن المسلم الصادق في كل حين ليكمل اتباعه له صلّىالله عليه وسلّم وتزيد محبته فيه صلّىالله عليه وسلّم ويكون هواه تبعاً لما جاء به .

فالناس يقومون احتراماً وتقديراً لهذا التصور الواقع في نفوسهم عن شخصية ذلك الرسول العظيم مستشعرين جلال الموقف وعظمة المقام وهو أمر عادي – كما تقدم – ويكون استحضار الذاكر ذلك موجباً لزيادة تعظيمه صلّىالله عليه وسلّم .

الكتب المصنفة في هذا الباب

الكتب المصنفة في هذا الباب كثيرة جداً ، منها المنظوم ومنها المنثور ومنها المختصر والمطول والوسط ، ولا نريد في هذه العجالة الموجزة أن نستوعب ذكر ذلك كله لكثرته وسعته ، وكذلك لا نستطيع أن نقتصر على ذكر شئ من ذلك على وجه الإجمال ، لأنه ليس مصنف أولى من مصنف في تقديم ذكره ، وإن كان لابد أن يكون بعضها أفضل وأجلّ من بعض ، ولذلك فإني سأقتصر هنا على ذكر كبار علماء الأمة من الحفّاظ الأئمة الذين صنّفوا في هذا الباب وظهرت لهم موالد مشهورة معروفة

فمنهم الحافظ محمد بن أبي بكر بن عبدالله القيسي الدمشقي الشافعي المعروف بالحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي المولود سنة (777 هـ) والمتوفَّى سنة (842 هـ) قال عنه الحافظ ابن فهد في لحظ الألحاظ ذيل تذكرة الحفاظ صفحة 319 : هو إمام حافظ مفيد مؤرخ مجيد له الذهن الصافي السالم الصحيح والخط الجيد المليح على طريقة أهل الحديث ، وقال : كتب الكثير وعلّق وحشّى وأثبت وطبق وبرز على أقرانه وتقدم وأفاد كل مَن إليه يمّم .

وقد تولّى مشيخة دار الحديث الأشرفية بدمشق ، وقال عنه الإمام السيوطي : صار محدّث البلاد الدمشقية ، وقال الشيخ محمد زاهد في تعليقه على ذيل الطبقات : قال الحافظ جمال الدين بن عبدالهادي الحنبلي في الرياض اليانعة لما ترجم لابن ناصر الدين المذكور : كان معظِّماً للشيخ ابن تيمية محباً له مبالغاً في محبته .ا.هـ . قلت : وقد ذكر له ابن فهد مؤلفاً يُسمى ( الرد الوافر على مَن زعم أن من سمى ابن تيمية شيخ الاسلام كافر ) قلت : هذا الإمام قد صنف في المولد الشريف أجزاء عديدة ، فمن ذلك ما ذكره صاحب كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون صفحة 319 وجامع الآثار في مولد النبي المختار في ثلاث مجلدات واللفظ الرائق في مولد خير الخلائق وهو مختصر .ا.هـ. وقال ابن فهد وله أيضاً مورد الصادي في مولد الهادي .

ومن أولئك الحافظ عبدالرحيم بن الحسين بن عبدالرحمن المصري الشهير بالحافظ العراقي المولود سنة 725 هـ والمتوفَّى سنة 808 هـ .

وهو الإمام الكبير الشهير أبو الفضل زين الدين وحيد عصره وفريد دهره حافظ الإسلام وعمدة الأنام العلاّمة الحجة الحبر الناقد مَن فاق بالحفظ والاتقان في زمانه وشهد له بالتفرد في فنه أئمة عصره وأوانه ، برع في الحديث والإسناد والحفظ والإتقان ، وصار المشار إليه في الديار المصرية بالمعرفة ، وماذا أقول في إمام كهذا وبحر خضم وفحل من فحول السنة وطود عظيم من أركان هذا الدين الحنيف ، ويكفينا قبول الناس لقوله في الحديث والإسناد والمصطلح ورجوعهم إليه إذا قيل العراقي ، وألفيته في هذا الباب عليها الاعتماد ويعرفه فضلاً وعلماً كل مَن له أدنى معرفة وصِلة بالحديث ، إن هذا الإمام قد صنّف مولداً شريفاً أسماه (المورد الهني في المولد السني ) ذكره ضمن مؤلفاته غير واحد من الحفاظ مثل ابن فهد والسيوطي في ذيولهما على التذكرة .

ومن أولئك الحافظ محمد بن عبدالرحمن بن محمد القاهري المعروف بالحافظ السخاوي المولود سنة 831هـ والمتوفَّى سنة 902هـ بالمدينة المنورة ، وهو المؤرخ الكبير والحافظ الشهير ترجمه الإمام الشوكاني في البدر الطالع وقال : هو من الأئمة الأكابر ، وقال ابن فهد : لم ارَ في الحفاظ المتأخرين مثله ، وهوله اليد الطولى في المعرفة وأسماء الرجال وأحوال الرواة والجرح والتعديل وإليه يُشار في ذلك ، حتى قال بعض العلماء : لم يأتِ بعد الحافظ الذهبي مثله سلك هذا المسلك وبعده مات فن الحديث ، وقال الشوكاني : ولو لم يكن له من التصنيف إلا الضوء اللامع لكان أعظم دليل على إمامته ، قلت : وقد قال في كشف الظنون : إن للحافظ السخاوي جزءاً في المولد الشريف صلّىالله عليه وسلّم .

ومن أولئك الحافظ المجتهد الإمام ملا علي قاري بن سلطان بن محمد الهروي المتوفى سنة 1014هـ صاحب شرح المشكاة وغيرها .

ترجمه الشوكاني في البدر الطالع وقال : قال العصامي في وصفه هو الجامع للعلوم النقلية والمتضلّع من السنة النبوية أحد جماهير الأعلام ومشاهير أولي الحفظ والأفهام ، ثم قال : لكنه امتحن بالاعتراض على الأئمة لاسيما الشافعي ا.هـ. ثم تكلف الشوكاني وقام يدافع وينافح عن ملا علي قاري بعد سوقه كلام العصامي ، فقال : أقول هذا دليل على علو منـزلته فإن المجتهد شأنه أن يبين ما يخالف الأدلة الصحيحة ويعترضه سواء كان قائله عظيماً أو حقيراً ، تلك شكاة ظاهر عنك عارها

قلت : هذا الإمام المحدّث المجتهد الذي ترجم له الشوكاني الذي قالوا عنه إنه مجتهد ومحدّث قد صنّف في مولد الرسول صلّىالله عليه وسلّم كتاباً قال صاحب كشف الظنون : واسمه ( المورد الروي في المولد النبوي) قلت : وقد حقّقتُهُ بفضل الله وعلّقتُ عليه وطبعته لأول مرة .

ومن أولئك الحافظ عماد الدين إسماعيل بن عمر بن كثير صاحب التفسير .

قال الذهبي في المختص : الإمام المفتي المحدّث البارع ثقة متفنن محدّث متقن .ا.هـ . وترجمه الشهاب احمد بن حجر العسقلاني في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة في صفحة 374 جاء منها : أنه اشتغل بالحديث مطالعة في متونه ورجاله ، وقال : وأخذ عن ابن تيمية ففتن بحبه وامتحن لسببه ، وكان كثير الاستحضار حسن المفاكهة ، سار تصانيفه في البلاد في حياته وانتفع بها الناس بعد وفاته سنة 744هـ وقد صنّف الإمام ابن كثير مولداً نبوياً طُبع أخيراً بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد .

ومن أولئك الحافظ وجيه الدين عبدالرحمن بن علي بن محمد الشيباني اليمني الزبيدي الشافعي (المعروف بابن الديبع ، والديبع بمعنى الأبيض بلغة السودان هو لقب لجده الأعلى علي بن يوسف) ولد في المحرم سنة 866هـ وتوفي يوم الجمعة ثاني عشر من رجب الفرد سنة 944هـ وكان رحمه الله أحد أئمة الزمان ، إليه انتهت مشيخة الحديث ، حدّث بالبخاري أكثر من مائة مرة وقرأه مرة في ستة أيام .

وقد صنّف مولداً نبوياً مشهوراً في كثير من البلاد وقد حقّقناه وعلّقنا عليه وخرّجنا أحاديثه بفضل الله .

وكتبه
العلامة السيد/ محمد علوي المالكي الحسني
خادم العلم الشريف ببلد الله الحرام

تم بحمد ال